Khaldounyat
 
 

موضوع متجدد

يمكنكم المشاركة بإرسل مقالاتكم على البريد الإلكتروني التالي 

Windows_Final@Hotmail.es

 وستنشر بعد يوم واحد من إستلامها .. شاركونا بأفكاركم ورؤاكم
 

بقلم: أ.د. محمد سعيد مولاي

لعل من أبرز الأفكار التي أفصح عنها مالك بن نبي رحمه الله ، هي المعتقدات الدينية وآثارها البليغة في نشأة الحضارات وإرسائها  على مدى الأجيال المتعاقبة.
فالدين عند مالك، الذي كرس حياته في معالجة مشكلات الحضارة ، هو قوام كل عمران  وتمدن  ولا حضارة تذكر إلا وكان من وراء بزوغها وانفجارها دين من الأديان الراسية أو معتقد من المعتقدات الراسخة.
وكثيرا ما قيل عن مفهوم الدين ويمكن الرجوع في ذلك إلى العديد من المقالات والدراسات، غير أن هذا المفهوم يتجلى عند مالك في صيغة علمية فريدة ، تستنبط بوضوح من خلال مجريات التاريخ الذي يدق في دورات –على حد تعبيره- بين ظهور الأحداث وأفولها تماما مثلما تتكرر دقات القلوب بين الانقباض (systole) والاسترخاء (diastole).
فالدين، في نظر مالك،  يتمثل في  الطاقة المحركة لعناصر الحضارة ولا بديل عنه في تركيب تلك العناصر  وهي الانسان والتراب والزمان.  ويذكر مالك أن ذلك يتم على غرار تركيب ذرات الأكسيجين والهيدروجين: فبفعل مفاعل (catalyseur) بينها ينتج الماء،  وكذلك تتراكب تلك العناصر الثلاثة بفعل الدين فتنفجر مبادئ الحضارة لتنطلق في دورة كاملة من البزوغ إلى الأفول.
ولنا في الدراسات التاريخية والأثرية ما يثبت ويدعم هذا المنظور لمالك حول العلاقة الوثقى بين الأديان والحضارات. فما من شك أن في ذلك  بيان وبرهان على  أن الانسان منذ غابر الأزمان كان ولا يزال  يعتنق أصنافا من الأديان ويلجأ إلى العديد من المبادئ المقدسة. وقد وجد فيها وسيلة فطرية للمحافظة على وحدة التقاليد والشيم، والانسجام بين أفراد المجتمع على مستوى القبائل والأمم، كما ألفي في تلك المقدسات طريقة مثلى لإرساء مختلف النظم الاجتماعية الضرورية لمطالب الحياة المدنية.
وقد نستخلص من ذلك قاعدة شاملة جوهرية، بأنه : ما ظهر على الأرض نوع  من أنواع التمدن إلا ورافقه صنف  من أصناف التدين.
ربما يسخر من تأخر من الأمم بما كان يؤمن به من تقدم من الملل والنحل، ويعجب مما اعتقدوه من خرافات وأساطير لا تغنى من الحق شيئا، ويهزأ بعقائدهم الراكدة التي جمدت عقولهم وقست قلوبهم حتى صارت كالحجارة أو أشد قسوة.
لكن حذار! حذار! فقد يأتي الإنسان مثلهم من حيث لا يشعر ولا يدرى. بل من الممكن جدا أن يكون حاله أسوأ حالا ونظره أقصر بعدا، وقد قال عز وجل: “يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم” (الحجرات:11). وكثيرا مما يجري الآن من أحداث همجية بشعة أسوأ حالا مما كانت عليه العصور الخالية. لذا فإن الحكمة تقتضي الاعتبار وعمق النظر في من مضى قبلنا واندثر.
ونريد في ما يلي أن نذكر ما قل ودل مما دانت به الأمم قديما وحديثا، ونتأمل فى ما استقرت عليه من معتقدات راسية وعادات راسخة، وما ارتكزت عليه من مبادئ مقدسة لا تقبل المساس بها لترسو عليها حضارات شامخة.وأملنا من وراء ذلك تبيان العلاقة الوثقى بين إحكام الأديان وإرساء الحضارات ، مساهمة في بلورة أفكار أستاذنا مالك رحمه الله تبارك وتعالى وتيسيرا لمفاهيمه العميقة حول مشكلات الحضارة.
  
   1- الأديان عبر الحضارات  القديمة
دانت الأمم في العصور القديمة بأشكال عديدة من الوثنية الدهماء، وعليها أقامت ثقافات وشيدت مدنيات لا تزال آثارها تقص من أخبارها.  “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين” (الروم 30/42).
   - حضارة وادي النيل
عبد قدامى المصريين آلافا من الآلهة، من بينها: إله الشمس الذي يهديهم في زعمهم إلى سواء السبيل لأنه كما اعتقدوا ذلك ينير لهم دنياهم ويكشف الظلمات عنهم، وكذلك إله وادي النيل الذي يأتيهم برزقهم على مدى السنين إذ يسقى لهم الأراضي القاحلة فتحيا بعد موتها…
واتخذوا لآلهتهم أسماء مقدسة كانت للعظماء منهم والكبراء أو كانت تدل على ظاهرة قاهرة من ظواهر الطبيعة. فتلك “إيزيس” وذاك “أوزيريس”..، وغير ذلك مما ألهوا من قديسة و قديس.
وأقاموا لها التماثيل لتمثل أمام أعينهم على الدوام، وصنعوا لها أصناما من الحجارة لترسخ في أذهانهم وعاداتهم مع مرور الأيام. ونصبوا لها الأنصاب وأقاموا حولها الشعائر وفرضوا لها المناسك، وكل ذلك من دواعي الثبات والاستقرار على نمط من الحياة والعبادة.
وشيدوا المعابد الشامخة لمزيد من أسباب التثبيت والتخليد :  كحفظ التماثيل والأصنام، وأداء مناسك الحج  في المواسم والأعياد. وكانوا يقدمون إليها أنواعا من القرابين، تحت إشراف أصناف من الكهان والرهبان.
وقدس الفراعنة أرواحهم وألهوا أنفسهم، فعبدهم الناس فى حياتهم وبعد مماتهم، وتلك آثارهم تدل عليهم: من أهرام راسية وموميات خالدة. وقد جاء فى القرآن الكريم من أخبار فرعون  الذى طغى واعتقد فى ألوهية ذاته وخلود نفسه: “ونادى فرعون فى قومه قال يا قومى أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون” (الزخرف:51)؛ “وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى..” (القصص:38).


   - حضارة ما بين النهرين وما جاورها

وكذلك الأمر في الحضارات القديمة التي نشأت حول دجلة والفرات. ففيهاعبد السوماريون والبابليون والآشريون آلهة كثيرة، واستقر معاشهم وحالهم على أديان شتى.  
فألهوا الشمس والقمر والكواكب، وقدسوا أرواح الملوك والكبراء والسادة، وخلدوا أسماءهم بوضعها على أصنام هامدة أو على نجوم وأجرام دائبة.
 وظهرت فيهم أصناف من الكهنة والسحرة، وأنواع شتى من العرافين والمنجمين لمعرفة نوايا الآلهة والأرباب، وتفادى غضبهم وكسب رضاهم، وهم بذلك كله يبحثون عن اطمئنان القلوب وأمان الضمائر والنفوس وراحة البال على الدوام.
وكذلك الأمر فى الفرس حيث عبد أهلها كثيرا من الظواهر الطبيعية القاهرة،  مثل الشمس أو النار التى ترمز عندهم إلى “إله النور”. وأقاموا لآلهتهم الأنصاب، ودعوها رغبا ورهبا، وتقربوا إليها بأنواع القرابين؛  كما عرف عنهم أنهم دانوا بدين المزدكية نسبة إلى “مزدك” وهو كبير آلهتهم وأعلاها مرتبة (وما من إله إلا الله ولا عال سواه!)؛ وهم يريدون من وراء ذلك  تثبيتا لأنفسهم واستقرارا لحياتهم.

   - حضارة اليونان
أما الإغريق فإنهم  قد عبدوا كذلك كثيرا من الآلهة، منها كبيرهم “زاس” (Zeus) الذي كان يسكن  في اعتقاداتهم فوق “الأولامب” (Olympe) وهو أعلى جبل في بلاد اليونان، وبجواره آلهة أخرى كإله الشمس والفنون “آبلون”(Apollon)، وإلهة الجمال “آفروديت”(Aphrodite)…،إلخ.
وتفنن الإغريق فى تشييد المعابد (كهيكل “آرتيميس”(Artémis) الذى دام بناءه مائة وعشرين سنة)، ووضعوا فيها تماثيل آلهتهم (كتمثال “زاس” الذى يعد عندهم من الروائع الفنية السبعة)، وضربوا لها مواسم وأعيادا  ليحجوا إليها من حين إلى حين ويتقربوا إليها بأنواع القرابين.
وكان أقدس معبد عندهم ذلك الذي أقيم على شرف كبير آلهتهم في جبل “أولامب”،  وكانوا يجتمعون فيه مرة كل أربع سنوات لإقامة شعائر دينهم وإجراء “الألعاب الأولمبية” على شرف آلهتهم، تلك الألعاب التي أضحت من التقاليد الراسية واتخذت في عصرنا الحديث صبغة عالمية! ولا يزال المشعل الأولمبي، الذى اقتَـبَـس فى زعم الأساطير أشعته الأولى من الشمس، ينتقل عبر المواسم والأجيال  تخليدا لروح الألعاب ومنهاجها العريق.

   - حضارة الروم

وقلدهم الرومان فى ذلك، فأخذوا عنهم أو زادوا عليهم، كمثل عبادتهم لكبير الآلهة “جوبيتر”  (Jupiter) الذى يعادل “زاس” عند الإغريق. لذا ساد في تاريخهم ما يسمى بالدين الإغريقي-الروماني، وهو مزيج بين معتقدات هؤلاء وأولئك.
وأقام الرومان لآلهتهم أصناما وتماثيل عديدة، وشيدوا لها المعابد الشامخة والهياكل الراسية؛ وتلك آثارهم بروما وغيرها من المدائن تشهد عليهم وتقص أخبارهم و“إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد”. (ق:37). ولقد ظهر فيهم جموع من الكهنة وأصناف من العبدة، تخصصوا في إقامة الشعائر الدينية وخدمة المعابد. كما أنهم أحيوا تقاليد الألعاب المقدسة، فأقاموها على شرف الأرباب والآلهة!
وكان من شعائرهم الثابتة: ألاّ يقدموا على عمل ولا يطمئنوا به إلا من بعد ما يتطيرون، كما كانوا يستقسمون بالأزلام، ويذبحون القرابين على الأنصاب. وكانت كل أسرة تحافظ على إقامة شعائر الدين، فتجتمع أمام نصب البيت، وتقدس إله الدار وإله النار (الموقودة على الدوام!) وغيرهما من الآلهة والأرباب!
ولقد اتخذ الإمبراطور الروماني من نفسه إلها،  فتأسست حوله ما يسمى بالديانة الإمبراطورية (culteimpérial)، والويل لمن صبأ عنها أو دان بغيرها. وكان يلقب بأسماء مقدسة تحمل فى معانيها صفات  الخلود والعظمة المطلقة والاستقرار الدائم .


   - الحضارة  الصينية-الهندية

كانت الصين مهدا لحضارة عريقة، نشأت فيها ديانات كثيرة، ومن أهمها ما تمحور حول فكرة التوازن والإنسجام بين
الكون والنفس البشرية .
فظهر عندهم مذهب “الطاوية” ، وطريقة “الكنفوسيانية” نسبة إلى كنفوسيوس ، ودين “البوذية” نسبة إلى بوذا . وقد نشأت هذه الديانة الأخيرة في الهند حيث اتخذها أهلها دينا رسميا منذ القرون الأولى لنشأتها، ومن شعائرها الأساسية انتهاج سبل الحكمة وترويض النفس على الصبر والثبات وتعويدها على التركيز والتأمل العميق لبلوغ مرتبة اليقظة القصوى وأسباب السكينة إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا، والخلود فى النهاية عند جنة النيرفانا .
ولقد أقام هؤلاء وأولئك أصناما لآلهتهم، وشيدوا لها المعابد والهياكل. كما ظهر فيهم جموع من الكهنة  والرهبان يعلمون الناس مبادئ الدين الراسخة، ويقيمون شعائره الراسية، كمثل أداء مناسك الحج على الطريقة البوذية …

 وهكذا نرى أن الحضارات القديمة لم تخْل أبدا من الأديان وقد لجأت إليها بحثا عن أسباب الاستقرار على مستوى الأنفس والمجتمعات. ولا يزال من الناس من يدين الآن بما دان به القدامى، ومن القبائل المعاصرة  من يعيش على نمط الأقوام البدائية، كمثل العديد ممن يعتقد الآن فى أنواع الطلاسم وأصناف الطواطم، ويؤمنون “بخلود الأرواح بعد موت الأجساد  وقدرتها على نفع الناس وإنزال الضرر بهم”


مشاهد قرآنية من مظاهر الجاهلية الأولى


وجاء القرآن الكريم بدين التوحيد ، فبين للناس مظاهر الشرك والإلحاد، وذكر مشاهد كثيرة من ضلال الوثنية التي ركنت إليها الأمم الخالية ورست على قواعدها مدنيات الجاهلية الأولى.


ابراهيم عليه السلام وقومه


من ذلك ما جري لخليل الرحمان: إذ دعا أباه وقومه إلى سبيل الرشاد، وأفحمهم بالحجة والبرهان. فبين لهم أن الأصنام التى استقروا  على عبادتها تقليدا لآبابائهم الأولين لا تملك لهم نفعا ولا ضرا، ولا تقوى حتى على الانتصار لنفسها، ودليل ذلك أنه  حطمها وجعلها جذاذا ولم تحرك ساكنا!. فتزعزعت عروش معتقداتهم الراسية، ولما شعروا بخطر انهيارها أجمعوا على حرق إبراهيم عليه السلام، فأنجاه الله من مكرهم ونصره عليهم، وجاء فى القرآن الكريم على لسانه: “قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم. أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون. قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين. قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم”. (الأنبياء:66ـ69)
وما يزيد تثبيتا وإرساء لهذه المعتقدات والعبادات التى كان عليها قوم ابراهيم وغيرهم من الأقوام والأمم، إنما هي التقاليد والعادات وما تحتوى عليه من رمزية ثابتة راسخة مثل رمزية الأصنام والأوثان: فهي التى تحفظ للأمم ذاكرتها وتربط ماضيها بحاضرها وتنسج بينهما وحدة تاريخية منسجمة، وتلك من أسس كل تمدن وحضارة.
وعلى هذا المنوال تتحقق أسباب المودة والألفة بين الأجداد والأحفاد، وتقوى بينهم أواصر الحمية والعصبية على الدوام. وقد قال عز وجل على لسان إبراهيم عليه السلام: “وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم فى الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين” (العنكبوت:25).


- الخلود إلى الأرض

وأشار القرآن الكريم فى مواطن عديدة إلى حب الانسان للعاجلة  وتركه للآجلة ، ورغبته الشديدة فى التمسك بدار الزوال والخلود فيها والإعراض عن دار القرار والنفور منها. وضرب الله عز وجل لذلك أمثلة كثيرة، كمثل  عاد يبتغون الخلود في الحياة الدنيا  باتخاذ المبانى العاتية والقصور الشامخة، تشييدا لمدائن راسية  وحضارة  راسخة. فأنذرهم هود عليه السلام حيث جاء فى الذكر الحكيم على لسانه وهو يخاطب قومه: “أتبنون بكل ريع آية تعبثون. وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون” (الشعراء:128ـ129). وصنعت ثمود مثل عاد: “وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين” (الحجر:82)، فأنذرهم رسول الله إليهم وهو صالح عليه السلام، لكنهم لبثوا على معتقداتهم الفاسدة  حتى أهلكوا بسببها.
أو كمثل فرعون “ذي الأوتاد” الذي تربع على ملك مصر ورسخ في حضارتها ، فعلا فى الأرض وظن أنه إله يعبد إلى الأبد، واستقرت حياة الناس على دينه و”طريقته المثلى” وهي كلها استعباد واستخفاف لقومه ولبنى إسرائيل. فجاءه موسى عليه السلام بالهدى ودين الحق، وأراه من آيات الله البينات. فتزعزعت معتقدات فرعون، غير أنه لم يرض عن بديل لها مع فسادها، فكذب وتولى، وتوعد السحرة الذين تخلوا عنه واتبعوا موسى عليه السلام بأشد العذاب: “ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى” (طه:71)، لكن السحرة أيقنوا بأن الأمر ليس بيد فرعون وإنما إلى الله تصير الأمور، وجاء على لسانهم ردا على فرعون: “قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا.إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى” (طه:72ـ73)  
 أو كمثل  ذلك العالم من بنى اسرائيل الذى آتاه الله تعالى  علوما جليلة وآيات بينات فانسلخ منها كما تنسلخ الحية من جلدتها بأن كفر بها وأعرض عنها وآثر الحياة الدنيا وأخلد إليها: “واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين. ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه” (الأعراف:175ـ176).
 فكثيرا ما يركن الانسان، مثل ما وقع لهذا المنسلخ من آيات ربه، إلى الحياة الدنيا ويَـثَّـاقل إلى الأرض. وكذلك تفعل الأمم التي تنسج ثقافتها وتشيد حضارتها بهدف الخلود في الحياة الفانية: “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” (الرحمان:26ـ27).
وقد زيِّــن للانسان حب الشهوات كحبه للأموال الطائلة التى يرجو الخلود  بها: “يحسب أن ماله أخلده” (الهمزة:3)، فيقع في الفتنة والغرور، مثلما جرى لأبي البشرية آدم عليه السلام حين غَـرَّه إبليس بالأكل من الشجرة التى نُـهِـي عنها وأوهمه بأنها تتضمن أسباب بقائه وخلوده : “فوسوس إليه الشيطان، قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى” (طه:130).


- ضلال أهل الكتاب


وتصدى القرآن الكريم لانحراف أهل الكتاب عن ملة إبراهيم خليل الرحمان، التي كان عليها موسى وعيسى عليهما السلام، ثم أحياها خاتم النبيين ورسول الله إلى الناس أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ومن ذلك الإنحراف أنهم جعلوا لله أندادا  واتخذوا من الأحبار والكبراء أربابا؛ كما أنهم ابتدعوا شعائر مثل الرهبانية التى لم تكتب عليهم ووضعوا شرائع كالتي اتفق عليها النصارى في مؤتمر نيسى . فتوقفت ضمائرهم وتصوراتهم  على معتقدات وعادات عميقة الرواسي والجذور، وبقيت على ذلك الحال جيلا بعد جيل، حتى أصبح كل من يتصور أو يفكر بعيدا عن معالمها وتعاليمها يعتبر من الغاوين الضالين. وما حادثة غاليلي مع رجال الكنيسة عنا ببعيد: تشهد على ما للعقائد من وقع في النفوس  وآثار بليغة فى تثبيت الأفكار والتصورات إلى حد تجميدها وحبسها، كما تشهد الحضارة الغربية على وجه الخصوص ما للمعتقدات الدينية من تأثير عليها وإرساء لها.
ولقد بين رسول الله (ص) الطريقة المنتهجة فى عبادة المشركين لشركائهم، كما ورد ذلك فى الحديث الشريف إذ: “قال عدي بن حاتم (رضي الله عنه): أتيت رسول الله (ص) وفي عنقى صليب، فقال: “يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك”. وانتهيت إليه وهو يقرأ سورة براءة حتى أتى على هذه الآية: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله”. قال: فقلت يا رسول الله إنا لم نتخذهم أربابا. قال: “بلى. أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه، ويحرمون عليكم ما أحل لكم فتحرمونه”. فقلت: بلى. قال: “فتلك عبادتهم” .
- من أنواع عبادات المشركين

وتعرض كذلك القرآن الكريم إلى أنواع شتى من عبادات المشركين، وبين وطأة الشرك على العقول واستيلائها على القلوب فلا تنفك منها ولا تنتهى عنها بل تظل عاكفة عليها حتى يأتي الله بأمره، ويتبين ذلك مثلا من خلال الجدال الذى جرى بين ابراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه: “واتل عليهم نبأ ابراهيم. إذ قال لأبيه وقومه: ما تعبدون؟. قالوا: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين. قال: هل يسمعونكم إذ تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون؟. قالوا: بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون. قال: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباءكم الأقدمون؟! فإنهم عدو لى إلا رب العالمين” (الشعراء:69ـ77). وكذلك جرى من قبل  لنوح عليه السلام الذي لبث في قومه أمدا طويلا: “قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا. ومكروا مكرا كبارا. وقالوا لا تذرن ءالهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا” (نوح 21-23).
 وبين كذلك القرآن الكريم أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين  غير منفكين حتى يفحموا  بالحجج الدامغة وتأتيهم البينة اللامعة مع بعثة رسول الله إلى العالمين: “لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة. رسول من الله يتلو صحفا مطهرة، فيها كتب قيمة” (البينة:1ـ3)      
ومن أنواع العبادات أيضا التى عدها القرآن الكريم من مظاهر الجاهلية : تقديس التابعين للقدامى  والاعتزاز بمعتقداتهم الباطلة. فترسو بذلك  الأواصر والتصورات كلها على بساط هذه التبعية وتتحجر المفاهيم بواسطتها عبر الأجيال المتعاقبة. ويوم الدين يتخاصم الجمعان: “إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب” (البقرة:166).
وإن هذه التبعية ليست بين القدامى والمحدثين فحسب ولكنها كذلك بين الطبقات المتزامنة التى تتفاوت فى الرزق والمعاش، مثلما جاء فى قوله عز وجل: “أهم يقسمون رحمة ربك، نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ورحمة ربك خير مما يجمعون”  (الزخرف:32). وإن تسخيرالبعض للبعض الآخر ضرورة اجتماعية لأجل التكامل والتكافل. فإذا طغى الانسان - وقد أنبأ عنه  بارئه  فقال: “كلا إن الانسان ليطغى أن رآه استغنى” (العلق:6ـ7)- تحول ذلك  التسخير إلى أشكال من الاستبداد والاستعباد، وعندئذ تصبح التبعية شريعة راسخة ومنهاجا ثابتا، يرتفع على متنها المستكبرون من السادة والكبراء بينما ينحط تحت وطأتها المستضعفون فى الأرض الذين يستسلمون  ولا يغيرون من أنفسهم شيئا أو بعبارة مالك بن نبي الذين لهم قابلية للاستعمار . ويوم القيامة يندم هؤلاء وأولئك ولات ساعة مندم: “يوم تقلب وجوههم فى النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله والرسول. وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا” (الأحزاب:66ـ67).  ويستثنى منهم  المستضعفون الذين لا يجدون  إلى الخلاص سبيلا: “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيما كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا؛ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا” (النساء:97-98).
وإن اتباع الهوى  ضرب من ضروب الجاهلية والضلال: “أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا” (الفرقان:43)، كما أن الآلهة والأرباب  وما يقام لها من تماثيل وأوثان: إن هي فى آخر المطاف إلا أسماء سما نجمها فى أذهان من عبدوها، ما أنزل الله بها من سلطان، وما هي إلا سمات وعلامات استقرت على متن التقاليد والعادات وعلى مر الأيام والسنين. وذلك بيِّـن فى جدال الرسل  مع أقوامهم، كمثل صالح عليه السلام وقومه ثمود: “قالوا أجئتنا  لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آبآؤنا فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب. أتجادلوننى فى أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما نزل الله بها من سلطان. فانتظروا إني معكم من المنتظرين” (الأعراف:71).  أو كمثل يوسف عليه السلام وهو يدعو من كان معه فى السجن: “يا صاحبيى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار!؟ ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم  ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله. أمر ألا تعبدوا إلا إياه. ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون” (يوسف:39-40)…
هذه بعض أنواع  العبادات الوثنية من الجاهلية الأولى،  التى قصها كتاب الله الحكيم، وهي كلها نماذج  للديانات المنحرفة والمدنيات القائمة عليها كما سنشاهد ذلك في العصور اللاحقة والمعاصرة.


2.5- سنن الله الثابتة في الأولين والآخرين


وهكذا مضت سنن الله الثابتة في الأولين، وكذلك تمضي فى الآخرين من غير تبديل ولا تحويل، وقد جاء فى الذكر الحكيم: “فلا تك فى مرية مما يعبد هؤلاء، ما يعبدون إلا كما يعبد آباءهم من قبل، وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص” (هود:109). وإن الغفلة تعمى البصيرة ، لذلك يكـذب المشرك بما يعبد ويدين بينما هو عابد لأرباب و ثابت على دين من الأديان: “ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاءكم، فزيلنا بينهم وقال شركاءهم ما كنتم إيانا تعبدون. فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين. هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت وردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون” (يونس:28ـ30)   (يتبع)   

المراجع:
1-   مالك بن نبي:
       - الظاهرة القرآنية (بالعربية والفرنسية)، الجزائر 1946
       - شروط النهضة (بالعربية والفرنسية)، الجزائر 1948
       - الإسلام والديمقراطية (بالعربية والفرنسية)، الجزائر 1968
       - مشكلة الأفكار (بالعربية والفرنسية)، القاهرة 1970
       - Colonisabilité, Problèmes de civilisation
(articles choisis et préfacés par A. Benamara) , Dar El Hadhara, 2003                                                                             
2-   ابن خلدون: المقدمة
3-   محمد حسنين هيكل: “العرب على أعتاب القرن ال21″
      (نشرت المحاضرة بأكملها فى جريدة  “الخبر” الجزائرية سنة 1996).
-4    “نشأة العالم الحديث 1715-1870″
Jean Michaud, Collection Jules Issac , Hachette, 1966   .  
5-   شارل داروين  : Charles Darwin: “أصل الأنواع عن طريق الاقتناء الطبيعى” (1859).
6-    Price,  P.W. 1995 Biological Evolution, Sanders College Publishers.
7-   LaRecherche,  n°291, Octobre1996
8-LaRecherche,  n°287,  Mai 1996   
9-”Les failles du Darwinisme”. La Recherche, n° 283, Janvier 1996   
10- Samuel P. Huntington, “The Clash of Civilizations”, Foreign Affairs, 1993
11- F. Fukuyama, la fin de l`Histoire et le dernier Homme,
(traduit de l`anglais par Denis-Armand Canal), Flammarion , 1992           

 
  Copyright © 1996-2010 YassineFBI DESIGNS™, All Rights Reserved.  
 
Este sitio web fue creado de forma gratuita con PaginaWebGratis.es. ¿Quieres también tu sitio web propio?
Registrarse gratis